لم يعد خفياً على العالم أن قطاع غزة أصبح مكاناً غير قابل للعيش على كل الأصعدة، بسبب الحرب المدمرة والمستمرة التي يشهدها منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إذ يواجه القطاع، وهو البقعة الجغرافية الصغيرة المكتظة بالسكان، أزمة إنسانية متفاقمة تتجلى، بصورة خاصة، في النقص الحاد في المياه، وتدهور البنية التحتية للصرف الصحي. وللحصار المفروض والأعمال العدائية المستمرة تأثير مباشر ومدمر في حياة السكان وحقهم في الحصول على مياه نظيفة وآمنة؛ فعلى مدار السنوات الـ 17 الماضية، فرضت إسرائيل حصاراً برياً وبحرياً وجوياً محكماً على قطاع غزة، وهو ما أثر في كل جوانب الحياة اليومية، وخصوصاً الوضع الاقتصادي، ومستوى المعيشة، وجودة الحياة، وما يرتبط بالنمو الاقتصادي، وجودة البنية التحتية وحجمها. وقد أدى هذا الحصار، بصورة منهجية، إلى حرمان أكثر من 2.3 مليون إنسان من الحقوق الأساسية للعيش الكريم ومقوماته، وخصوصاً آثاره في خدمات المياه والكهرباء التي تُعد شريان الحياة، بالإضافة إلى انعدام الأمن الغذائي.
بعد أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فرضت الحكومة الإسرائيلية، وبسرعة وفي لحظة، "حصاراً كاملاً" على غزة، وهو ما قطع الإمدادات الأساسية من البضائع والوقود والمياه والكهرباء. وفي حلول 11 تشرين الأول/أكتوبر، كانت غزة تعيش تحت ظلام دامس بالكامل بسبب نفاد الوقود وانقطاع الكهرباء.[1] وقد دانت منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش، هذا الحصار، ووصفته بأنه "قاسٍ ومخالف للقانون الدولي."[2] كما وصفت الأمم المتحدة هذه الإجراءات بأنها "عقاب جماعي"، وهو ما يُعد انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي.[3]
الوضع الإنساني: في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أصدرت حكومة الاحتلال الإسرائيلي أوامر بإجلاء المدنيين الفلسطينيين من قطاع غزة، عبر إخلاء منازلهم قسراً[4] بدلاً من حماية المدنيين من الأذى وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية بسلاسة وعلى نطاق واسع وفقاً للقانون الدولي، وقد عرّضت عمليات الإخلاء هذه المدنيين لمزيد من المخاطر والنزوح والحرمان تحت القصف المكثف. وعلى الرغم من الدعوات إلى وقف سياسة الإخلاء القسري، فإن عمليات الإخلاء مستمرة حتى هذه اللحظة، ومن دون أي احترام للقانون الدولي.[5]
وفي شباط/فبراير 2024، صرح المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء بأن "كل شخص في قطاع غزة يعاني جرّاء الجوع الآن"، وفي آذار/مارس، اعتبر برنامج الغذاء العالمي "أن الفلسطينيين في غزة يتضورون جوعاً حتى الموت."[6]
كما أفادت اليونيسف في الشهر نفسه بأن واحداً من كل ثلاثة أطفال دون سن الثانية في شمال غزة يعاني جرّاء سوء التغذية الحاد.[7] وفي تموز/يوليو 2024، أعلن خبراء الأمم المتحدة أن المجاعة انتشرت في جميع أنحاء قطاع غزة.[8]
وتهدف هذه الورقة إلى تقديم تحليل شامل للوضع الحالي للمياه والصرف الصحي وتسليط الضوء على الحاجات العاجلة، وتقديم توصيات قابلة للتنفيذ للتخفيف من الأزمة وحماية الصحة العامة.
استهداف بنية المياه والصرف الصحي في قطاع غزة وتدميرها
خلال هذه الحرب المدمرة، قامت الآلة العسكرية الإسرائيلية بالتدمير شبه الكامل للبنية التحتية الخاصة بمرافق المياه والصرف الصحي وشبكاتها في قطاع غزة والمنظومات الداعمة والمشغلة لها، بما فيها آبار إنتاج المياه وشبكات توزيعها ومحطات تحليتها،[9] بالإضافة إلى محطات معالجة الصرف الصحي وخطوط النقل،[10] الأمر الذي ساهم، بصورة كبيرة، في التدهور الكارثي لأوضاع الحياة في غزة، بما فيها الآثار الكارثية على الصحة العامة لسكان قطاع غزة المدنيين، وانتشار الأوبئة والأمراض المعدية، كأمراض الكبد الوبائي، والإسهال، والتيفوئيد، والكوليرا.[11]
وقد أجمع العديد من خبراء القانون الدولي والمياه في العالم على أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي قامت باعتبار مرافق المياه وبنيتها التحتية أهدافاً عسكرية، وذلك عبر سياسات وأعمال عسكرية حرمت سكان قطاع غزة المدنيين من المياه، ويأتي ذلك في الوقت الذي تستخدم فيه حكومة الاحتلال المجاعة والتعطيش كسلاح للتجويع وتبرير الإبادة الجماعية بحسب العديد من المنظمات الدولية والأممية؛ ففي 9 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أعلنت الحكومة الإسرائيلية قطع المياه[12] والكهرباء عن قطاع غزة،[13] وقد أعقب هذا التهديد مستوى غير مسبوق من الدمار في البنية التحتية الحيوية للمياه والصرف الصحي، بما في ذلك الطرق المؤدية إليها. كما طبقت الحكومة الإسرائيلية سياسة تمنع تسليم الوقود وإمدادات المياه.[14] وقد أدت هذه الأعمال مجتمعة، إلى جانب القصف المستمر من جانب الجيش الإسرائيلي، إلى فقدان قدرة الجهات الفاعلة الإنسانية، بما فيها المؤسسات الدولية، على توفير الحد الأدنى من خدمات الطوارئ المنقذة لحياة سكان غزة، وشل الجهود المبذولة لاستعادة إنتاج المياه لديهم أيضاً.
الوضع المائي في قطاع غزة قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023
تُعتبر مشكلة المياه في قطاع غزة مشكلة مركبة ومعقدة تتداخل فيها الأوضاع السياسية والاحتلال الإسرائيلي المتواصل منذ 57 عاماً، بالإضافة إلى الحصار الإسرائيلي لأكثر من 17 عاماً، والانقسام الفلسطيني والازدياد المتسارع في عدد السكان ومحدودية الموارد. كل هذه الأسباب أدت إلى التدهور الحاد في قطاع المياه، وتأخير تنفيذ العديد من المشاريع، وعلى رأسها مشروع إنشاء محطة تحلية مياه البحر المركزية في غزة.[15] ومن المعروف أن إسرائيل قامت بالسيطرة الكاملة على الموارد المائية ومصادر المياه في الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً في قطاع غزة، منذ الاحتلال سنة 1967؛ إذ قامت بفرض سيطرتها على القطاع، وهو ما أدى إلى تقييد وصول الفلسطينيين إلى المياه العذبة. وهذا التحكم الإسرائيلي بالمياه أثر كثيراً في الحياة اليومية لسكان غزة، إذ يعاني القطاع جرّاء نقص حاد في المياه الصالحة للشرب.[16]
وبحلول تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان سكان غزة لا يزالون مفتقرين إلى كميات كافية وآمنة من المياه، إذ إن 97% من المياه الجوفية غير صالحة للشرب.[17] وكان الفلسطينيون في القطاع يحصلون على 82 لتراً للشخص الواحد يومياً قبل الحرب، وهي أقل من الكمية اليومية الموصى بها من جانب منظمة الصحة العالمية، والتي ينبغي ألاّ تقل عن 100 لتر للشخص الواحد بحسب تقارير سلطة المياه الفلسطينية. ومقارنة بذلك، فإن الإسرائيليين، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية، يستهلكون ما متوسطه 247 لتراً يومياً من المياه.[18]
لكن على الرغم من كل هذه التحديات والأزمات التي عصفت بقطاع غزة، فقد كان لسلطة المياه الفلسطينية ومصلحة بلديات الساحل دور كبير وفعال في جلب وتنفيذ العديد من المشاريع الاستراتيجية والمبادرات للتخفيف من أزمة المياه، وخصوصاً إنشاء محطات تحلية مياه البحر، وبعض محطات تحلية مياه الآبار الجوفية العالية الملوحة، عبر تنفيذ عدة محطات لتحلية مياه البحر على طول ساحل قطاع غزة بقدرة إنتاجية تصل إلى نحو 35,000 متر مكعب في اليوم، وهي مقسمة على النحو التالي:[19]
- محطة تحلية شمال قطاع غزة في منطقة السودانية، وبقدرة إنتاجية تبلغ 10,000 متر مكعب يومياً.
- محطة تحلية خان يونس، والتي تقع على ساحل جنوب قطاع غزة، وبقدرة إنتاجية تبلغ 20,000 متر مكعب يومياً.
- محطة تحلية مياه بحر دير البلح، وبقدرة إنتاجية تبلغ 6000 متر مكعب يومياً.
وتلك المياه المحلاة المنتجة يتم خلطها بمياه الآبار الجوفية، والتي وصل عددها إلى 284 بئراً، لزيادة الكمية وتقليل التكلفة، لتصل الكمية النهائية إلى 75,000 متر مكعب يومياً بحسب تقارير مصلحة المياه.
محطات تحلية مياه البحر على شاطئ قطاع غزة
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يوجد في قطاع غزة خمس محطات لمعالجة المياه العادمة، والتي تقوم بمعالجة مياه الصرف الصحي بالكامل، وأُخرى جزئياً، وهي تخدم محافظات قطاع غزة الخمس، وهي كالتالي:[20]
محطات معالجة مياه الصرف الصحي في قطاع غزة
- محطة معالجة مياه الصرف الصحي في محافظة شمال غزة: تقع هذه المحطة في شمال قطاع غزة، وهي بقدرة استيعابية تُقدر بـ 35,600 متر مكعب يومياً.
- محطة معالجة مياه الصرف في مدينة غزة الشيخ عجلين: وقد تم تطوير هذه المحطة في مدينة غزة لاستيعاب 35,000 متر مكعب يومياً، وتمت إعادة تأهيلها، وهي تخدم مدينة غزة.
- محطة معالجة مياه الصرف الصحي في مدينة رفح: صُممت هذه المحطة لتستوعب 2000 متر مكعب يومياً - سنة 1992 - ومن ثم تم تطويرها في سنة 2011 لتستوعب 16,000 متر مكعب يومياً، لكن في الوقت الحالي، فإن المحطة تعمل فوق طاقاتها، وتستقبل زيادة على قدرتها الاستيعابية، إذ يصل إلى المحطة نحو 20,000 متر مكعب يومياً.
- محطة معالجة مياه الصرف في منطقة الوسطى شرقي البريج: أُنشئت المحطة بدعم من ألمانيا عبر بنك التنمية الألماني (KFW). وتم تشغيل المحطة في كانون الأول/ديسمبر 2020، وهي تستوعب 60,000 متر مكعب في المرحلة الأولى، وتخدم سكان محافظة الوسطى ودير البلح وجزءاً من مدينة غزة.
- محطة معالجة مياه الصرف الصحي في شرق خان يونس: تم تأسيس المحطة بدعم من بنك التنمية الإسلامي عبر "UNDP"، وتم تشغيلها في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وتستوعب 26,600 متر مكعب في المرحلة الأولى، وتخدم محافظة خان يونس والمناطق الشرقية.
التدمير المنهجي للبنية التحتية وأزمة إمدادات المياه
يُظهر التحليل العلمي للبيانات المستقاة من التقارير الدولية أن الوضع المائي في غزة يتجاوز كونه مجرد نتيجة للصراع، بل هو أيضاً نتيجة لسياسات ممنهجة أدت إلى تقليص مصادر المياه الصالحة للشرب وفرض حالة من التعطيش، إذ أدت الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ 10 أشهر إلى تدمير واسع للبنية التحتية لمرافق المياه، وهو ما زاد من صعوبة الحصول على مياه نظيفة، إذ قامت آلة الحرب الإسرائيلية بتدمير العديد من محطات تحلية المياه والآبار المغذية للمياه وشبكات الأنابيب، وهو ما جعل من الصعب توفير المياه للسكان،[21] بالإضافة إلى وقف تزويد القطاع بالوقود والكهرباء لتشغيل محطات تنقية المياه وتوزيعها،[22] وعن طريق منظومة الضخ، والتي تم تدمير معظمها، أو النقل عبر سيارات خزانات المياه، الأمر الذي يزيد من تفاقم الأزمة الصحية على الرغم من أن مياه الخزان الجوفي والذي يعتبر المصدر الوحيد للمياه في قطاع غزة لا يصلح للشرب من قبل الحرب، بحسب منظمة الصحة العالمية.
فقد أظهرت تقارير مجموعة المياه والصرف الصحي "WASH cluster" التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وكذلك مصلحة بلديات الساحل تدمير أكثر من 68% من مرافق المياه والصرف الصحي في مناطق قطاع غزة، كلياً أو جزئياً. والشكل التالي يبيّن حجم التدمير:
كما تشير الأضرار الكبيرة التي لحقت بمدينة غزة وشمال غزة إلى الحاجة الملحة إلى جهود الإصلاح، إذ تشهد هذه المناطق أعلى نسب من الدمار الشديد والمرافق المتضررة، وهو ما يؤكد الحاجة الماسة إلى الموارد والدعم. وفي المقابل، تُظهر دير البلح وخان يونس ورفح، على الرغم من تأثرها، مزيجاً من مستويات الضرر، مع بقاء بعض المرافق قيد التشغيل. ويشير هذا التباين إلى نهج أكثر دقة للتدخل في هذه المناطق.
وفي 21 آذار/مارس 2024، دمرت العمليات العسكرية الإسرائيلية مختبرات فحص جودة المياه الرئيسية التي تديرها مصلحة مياه بلديات الساحل في مدينة الزهراء وسط قطاع غزة، وفي كانون الأول/ديسمبر 2023، تم تدمير مختبرات محطة معالجة مياه الصرف الصحي في محافظة خان يونس. [23]
كما أظهرت تقارير منظمة أوكسفام الدولية أن نسبة الفرد من مياه الاستخدام والشرب تناقصت بصورة حادة، وبنسبة 94%، إذ كانت حصة الفرد من المياه قبل تشرين الأول/أكتوبر الماضي في قطاع غزة نحو 82 لتراً للشخص الواحد، وهي أقل من الكمية الموصى بها بحسب منظمة الصحة العالمية، والتي يجب ألاّ تقل عن 100 لتر للشخص، بينما هي الآن لا تتعدى 5 لترات للشخص الواحد، والشكل التالي يوضح إنتاج المياه.
ولفهم حجم الدمار الذي لحق بمرافق المياه، فقد أظهر أحدث تقرير لتقييم الأضرار في البنية التحتية والمياه، والذي قامت به الأمم المتحدة في حزيران/يونيو 2024، التالي:[24]
- 71% من محطات تحلية المياه المالحة البلدية، والتي تعتمد على آبار الخزان الجوفي، تم تدميرها (100% في شمال غزة، و100% في مدينة غزة، و81% في خان يونس).
- 69% من إجمالي آبار إنتاج المياه تم تدميرها (78% في شمال غزة، و88% في مدينة غزة، و79% في خان يونس).
- 66% من إجمالي خزانات المياه تم تدميرها (100% في شمال غزة، و89% في مدينة غزة، و76% في خان يونس).
- 33% من محطات تحلية مياه البحر تم تدميرها (100% في مدينة غزة)، إذ إن هذه المحطة تقع على ساحل شمال غزة، وكانت تنتج نحو 10,000 متر مكعب يومياً.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد أظهر تحليل أجرته منظمة أوكسفام لإنتاج المياه داخل غزة وإمدادات الوقود بين 16 شباط/فبراير و26 أيار/مايو 2024 (100 يوم) أنه نتيجة الدمار ونقص الوقود، انخفض إنتاج المياه في جميع أنحاء قطاع غزة بنسبة 84%.
انهيار خدمات الصرف الصحي
يشكل انهيار نظام الصرف الصحي وتكدس النفايات الصلبة مخاطر صحية كبيرة على سكان قطاع غزة، فقد تعرضت مرافق الصرف الصحي وخدماته للتدمير، إذ وجد تحليل لأحدث تقرير لتقييم أضرار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، صادر عن الأمم المتحدة في 3 حزيران/يونيو 2024، أن المكونات الرئيسية لأنظمة إدارة مياه الصرف الصحي في غزة دُمرت بسبب العمل العسكري الإسرائيلي. ويأتي التحليل كالآتي:
- تسرب مياه الصرف الصحي: أدى تدمير مرافق محطات ومعالجة مياه الصرف الصحي إلى تسرب المياه العادمة غير المعالجة إلى البيئة، وهو ما أدى إلى تلوث مصادر المياه والمناطق السكنية، وانتشار الأمراض.
- تكدس النفايات: أدت الحرب إلى تدمير سيارات جمع النفايات ومنع دخول الوقود إلى زيادة الضغوط على أنظمة إدارة النفايات، وهو ما أدى إلى تكدس النفايات في الشوارع والأماكن العامة، الأمر الذي شكل بيئة ملائمة لتكاثر الحشرات وزيادة تدهور الأوضاع الصحية.[25]
- لقد تم تدمير ما يقارب 70% من إجمالي محطات ضخ مياه الصرف الصحي (بما في ذلك 73% في شمال غزة، و85% في مدينة غزة، و64% في خان يونس، و80% في رفح).
- 67% من مرافق معالجة المياه العادمة تم تدميرها (100% في دير البلح، و100% في خان يونس، و100% في الشمال غزة).
في 26 حزيران/يونيو 2024، كانت 100% من مرافق معالجة مياه الصرف الصحي في غزة خارج الخدمة وغير عاملة، وهو ما أدى إلى تسرب واسع النطاق وتصريف مياه الصرف الصحي إلى الخزان الجوفي والبحر الأبيض المتوسط. كما أنه في 6 كانون الثاني/يناير 2024، عقب تدمير البنية التحتية للصرف الصحي ومياه الأمطار، غمرت مياه الصرف الصحي مخيم جباليا للاجئين لعدة أيام،[26] وبذلك، فقد أدى عدم وجود مرافق الصرف الصحي إلى انتشار الأمراض المنقولة بالمياه.
تلوث المياه وانتشار الأمراض وتدهور الصحة العامة لسكان قطاع غزة
نتيجة نقص المياه الحاد، اضطر سكان مدينة غزة وشمالها إلى شرب المياه المالحة من الآبار الجوفية المالحة، وفي بعض الأحيان إلى شرب مياه البحر، وهو ما أدى إلى مشكلات صحية خطِرة بسبب ارتفاع نسبة الملح في هذه المياه،[27] ووجود تلوث بكتيري نتيجة توقف عملية كلورة المياه وتعقيمها باستخدام مادة الكلور. كل ذلك أدى إلى انتشار الأوبئة والأمراض الخطِرة بين سكان قطاع غزة، كالإسهال بأنواعه، والكبد الوبائي، والكوليرا، والتيفوئيد، كما أن ضخ مياه الصرف الصحي مباشرة في البحر أدى إلى تلوث مياه البحر، وانتشار العديد من الأمراض الخطِرة، ومنها الجلدية بين السكان. كما أن شرب المياه المالحة، إلى جانب تسببه بأمراض المعدة والنزلات المعویة، فإنه يسبب زیادة ضغط الدم وأمراض الكلى وفرصة الإصابة بالسكتة الدماغیة، وهو ما یؤدي في النهایة إلى الجفاف المفرط لأنسجة الجسم، وخصوصاً المخ.[28]
وقد لوحظ أن الفئات الضعيفة، كالأطفال وكبار السن في غزة، هم الأكثر تضرراً من نقص المياه النظيفة. ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، فإن الأطفال المهجرين يحصلون على ما بين 1.5 لتر ولترين من الماء يومياً فقط، بينما الحد الأدنى للبقاء هو 3 لترات يومياً، وهذا النقص الحاد يؤدي إلى زيادة في حالات الجفاف وسوء التغذية بين الأطفال، وهو ما يجعلهم عرضة لأمراض خطِرة، كالإسهال، والتهاب الكبد A، والكوليرا.[29]
الخلاصة والتوصيات
أدت الحرب المدمرة والسياسات الإسرائيلية التعسفية على قطاع غزة إلى تدمير ممنهج على كل الأصعدة، وخصوصاً مرافق المياه والبنية التحتية للصرف الصحي، كما تم تعطيل معظم محطات تحلية المياه وأنظمة معالجة المياه العادمة نتيجة وقف إمدادات القطاع بالمياه والكهرباء والوقود، بالإضافة إلى تلوث وتدمير الخزان الجوفي عبر ضخ مياه البحر لغمر الأنفاق. هذا الحرمان الشديد والمتواصل للسكان المدنيين في قطاع غزة من المياه الصالحة للشرب بالكميات الكافية يُعتبر شكلاً من أشكال جريمة الإبادة الجماعية، فهو يلحق أضراراً جسيمة بالسكان المدنيين، ويخضعهم لأحوال معيشية من شأنها أن تتسبب بموت أعداد كبيرة منهم، فضلاً عن إصابات واسعة بالأوبئة والأمراض، بما في ذلك تفشي الأمراض المنقولة عن طريق المياه، كالتهاب الكبد، والإسهال، والتيفوئيد، والكوليرا. وقد تدهورت أوضاع الحياة للسكان المدنيين كثيراً، الأمر الذي عدته عدة هيئات دولية شكلاً من أشكال العقاب الجماعي، وانتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، وذلك وفقاً لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والأحكام القضائية الدولية ذات الصلة.
وتتطلب الأزمة الحالية في قطاع غزة استجابة شاملة ومنسقة لضمان تلبية الحاجات الأساسية للسكان والمحافظة على صحتهم وسلامتهم، وعبر تنفيذ التوصيات المذكورة أدناه، يمكن تخفيف الأثر السلبي للحرب، وتحسين أوضاع الحياة اليومية للمواطنين في القطاع. يجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته في تقديم الدعم اللازم وضمان حماية المدنيين وفقاً للقوانين الدولية والإنسانية، كما تتطلب الأوضاع في غزة اهتماماً عاجلاً وجهوداً مستدامة لحماية صحة السكان وتعزيزها. كما أن النهج الشامل الذي يتضمن جهود الإغاثة الفورية، وتطوير البنية التحتية على المديين القصير والطويل، وممارسات الإدارة المستدامة للمياه، كلها أمور ضرورية لبناء نظام مرن ومستدام للمياه والصرف الصحي في غزة. ويشكل التعاون الدولي والابتكارات التكنولوجية والمشاركة المجتمعية مكونات أساسية للاستجابة الناجحة للأزمة، وعبر العمل معاً، يمكن للمجتمع الدولي أن يساعد في تخفيف معاناة سكان غزة وبناء مستقبل يتمكن فيه الجميع من الحصول على المياه النظيفة والصرف الصحي المناسب.
التوصيات والسياسات المقترحة
تمثل أزمة المياه في قطاع غزة تهديداً على المدى القصير، يشمل تدهور الصحة العامة وانتشار الأمراض المنقولة عبر المياه. أمّا على المدى الطويل، فيمكن أن يؤدي نقص المياه إلى زيادة معدلات الهجرة بسبب التدهور البيئي والاقتصادي في المنطقة، فلذلك، يجب تبنّي سياسات فورية للتخفيف من حدة الأزمة المائية، تشمل إعادة تأهيل البنية التحتية وضمان وصول المياه النظيفة إلى جميع السكان، وكذلك تطوير مشاريع مستدامة تضمن استمرارية هذا الحق الأساسي.
تحليل الآثار القصيرة والطويلة الأمد
الآثار القصيرة الأمد
- تكاليف الصحة: توقعات تفشي الأمراض: وفقاً لتقارير منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، فإن التأثيرات الصحية في غزة كارثية؛ إذ يُتوقع أن أكثر من 50٪ من السكان معرضون للإصابة بالأمراض المنقولة عبر المياه كالكوليرا والتيفوئيد بسبب انهيار البنية التحتية للمياه. وتشير التقديرات إلى أن تكاليف الرعاية الصحية يمكن أن ترتفع إلى أكثر من 10 ملايين دولار خلال العام الأول، مع خسائر اقتصادية إضافية نتيجة انخفاض الإنتاجية (UNSCO) (UN News).
- الآثار الاقتصادية للنزوح: من المتوقع أن يشهد القطاع الزراعي، الذي يعتمد بصورة كبيرة على المياه، انخفاضاً في الإنتاج بنسبة 40%، وهذه الخسارة تترجَم إلى ما يُقدّر بـ 50 مليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة الأولى (UN News).
الآثار الطويلة الأمد
- الهجرة والتغيرات الديموغرافية: تشير التقارير إلى أن ما يصل إلى 20% من سكان غزة ربما يجبَرون على النزوح خلال خمس سنوات بسبب الأوضاع غير القابلة للعيش الناجمة عن أزمة المياه. وهذا التغيير سيؤدي إلى تغييرات ديموغرافية كبيرة، الأمر الذي يزيد من الاكتظاظ في المناطق الحضرية، ويضع ضغوطاً إضافية على الموارد المحدودة (UNSCO).
- العقبات أمام التنمية المستدامة: يمكن أن تستغرق إعادة بناء البنية التحتية للمياه في غزة نحو 20 سنة، وستكلف أكثر من 3 مليارات دولار، وفقاً لتقديرات مشتركة من البنك الدولي والأمم المتحدة. وهذا التأخير سيعيق كثيراً التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وخصوصاً في مجالات الصحة والتعليم والحد من الفقر (UNSCO).
- تكاليف البنية التحتية: تشير تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة إلى أن إعادة بناء البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة يمكن أن تكلف نحو 3 مليارات دولار؛ ويشمل ذلك 500 مليون دولار لإعادة بناء خطوط الأنابيب، ومليار دولار لبناء محطات تحلية جديدة، و500 مليون دولار لاستعادة مرافق معالجة الصرف الصحي (UNSCO).
توصيات عاجلة وقصيرة المدى:
عاجلة: توفير مصادر مياه بديلة ومحطات تحلية موقتة ومتنقلة تعمل بالطاقة الشمسية في ظل انقطاع الكهرباء لضمان الحد الأدنى من مياه الشرب للسكان خلال فترة الحرب وفترة الستة أشهر الأولى التي تلي وقف الحرب.
قصيرة المدى: إعادة إصلاح وبناء شبكات المياه ومحطات الصرف الصحي المدمرة وتحسين جودة المياه الموزعة، من إعادة إصلاح وبناء محطات تحلية المياه عبر الدول المانحة، والضغط على الجانب الإسرائيلي من أجل السماح بدخول المواد والمعدات اللازمة لإعادة الإعمار وإصلاح مرافق المياه والصرف الصحي. بالإضافة إلى تزويد القطاع بالكهرباء اللازمة لتشغيل مرافق المياه عن طريق إعادة إصلاح خطوط الكهرباء من الجانبين الإسرائيلي والمصري، وكذلك تزويد غزة بمحطة كهرباء عبر سفينة في البحر لفترة سنتين كي تتسنى إعادة تأهيل وبناء محطة توليد الكهرباء في غزة.
الآثار والسيناريوهات المستقبلية لقطاع المياه: السيناريوهات الممكنة تتراوح بين تحسين الوضع المائي عبر تدخلات دولية وبيئية، وتدهور أكبر في حالة استمرار الحصار والاعتداءات على مرافق المياه. وتتطلب السيناريوهات المثلى تدخلاً دولياً حاسماً لإنقاذ قطاع المياه من الانهيار، فلذلك يجب دراسة الآثار المستقبلية للحرب المدمرة الحالية على السكان، ومنها هجرة الشباب إلى أوروبا والتواجد السكاني في غزة، ومن ثم يجب تطوير سيناريوهات ممكنة ووضع سياسات للتعامل مع هذه التحديات.
التكلفة الاجتماعية والاقتصادية: يجب تقييم التكلفة الاجتماعية والاقتصادية لتلوث المياه الحالي وتأثيره في الصحة العامة وانتشار الأمراض والاقتصاد المحلي.
التعاون الدولي ودعم المجتمع الدولي: يجب على المجتمع الدولي تحمُل مسؤوليته في تقديم الدعم اللازم وضمان حماية المدنيين وفقاً للقوانين الدولية والإنسانية وممارسة الضغط الدولي على إسرائيل للسماح بدخول المساعدات الإنسانية والمواد الضرورية لإصلاح وتشغيل مرافق الصرف الصحي وإدارة النفايات.
[1] “Israel/OPT: Israel must lift illegal and inhumane blockade on Gaza as power plant runs out of fuel”, Amnesty International, 12/10/2023.
[2] “Israel Still Blocking Aid to Civilians in Gaza”, Human Rights Watch, 23/10/2023.
[3] Ibid.
[4] “Palestine - Conflict in Gaza leaves 83 per cent of the population internally displaced in less than three months”, Internal Displacement Monitoring Centre, 14/5/2024.
[5] “Gaza war grinds on as forcibly displaced run out of space for shelter”, United Nations Palestine, 5/7/2024.
[6] “Gaza Strip: IPC Acute Food Insecurity Special Snapshot | 1 May - 30 September 2024”, IPC: Integrated Food Security Phase Classification, 25/6/2024.
[7] “Gaza's Children: Trapped in a cycle of suffering”, UNICEF, 26/3/2024.
[8] “UN experts declare famine has spread throughout Gaza strip”, UN & UN Human Rights, 9/7/2024.
[9] “Humanitarian Needs and Response Update | 2-8 April 2024”, by OCHA, ReliefWeb, 8/4/2024.
[10] “OPt Emergency Situation Update – Issue 33: 7 Oct 2023 - 6 Jun 2024”, World Health Organization, 6/6/2024.
[11] “Gaza Health Cluster Dashboard”, World Health Organization, 16/6/2024.
[12] “The Siege of Gaza's Water”, Center for Strategic and International Studies, 12/1/2024;
Emanuel Fabian, “Defense minister announces ‘complete siege' of Gaza: No power, food or fuel”, Times of Israel, 9/10/2023.
[13] “Israel: Unlawful Gaza Blockade Deadly for Children”, Human Rights Watch, 18/10/2023.
[14] “Israel/OPT…”, op. cit.
[15] Laila Barhoum, “STILL Treading Water: Reviewing six years of the Gaza Reconstruction Mechanism and the dire water situation in the Gaza Strip”, Oxfam International, This paper is based on research undertaken by MRFB consulting team in Gaza between May and August 2020. Oxfam acknowledges the assistance of Catherine de Bock in its production. Published by Oxfam GB for Oxfam International under ISBN 978-1-78748-741-3 in March 2021. DOI: 10.21201/2021.7413. Retrieved from, 22/3/2021:
[16] عامر سلطان، "النيل: إسرائيل وضعت خطة لنقل مياه النهر إلى قطاع غزة قبل 35 عاماً -وثائق بريطانية"، "بي بي سي نيوز عربي"، 3/11/2022.
تيسير جبارة، "السيطرة الصهيونية على المياه في فلسطين"، مركز الأبحاث الفلسطيني.
[17] Basem Shomar & Joaquim Rovira, “Human health risks associated with the consumption of groundwater in the Gaza Strip”, Heliyon, vol. 9, issue 11 (November 2023).
[18] "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وسلطة المياه الفلسطينية يصدران بياناً صحفياً مشتركاً بمناسبة يوم المياه العالمي، 22/03/2024"، الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 22/3/2024.
[19] “Gaza turns to desalination amid increasingly scarce water access”, EFE, 8/9/2023.
“Renewable Energy Sources in Gaza's WASH Sector for Public and Private WASH Facilities”, [20] Oxfam (July 2019), United Nations Development Programme (UNDP). This study was implemented by Oxfam, in close coordination with WASH Cluster members under the umbrella of the Solar System Task Force led by the Palestinian Water Authority.
[21] “On the record update #6 on rituation in Gaza, Palestine, Wednesday 24th July 2024”, by OCHA, ReliefWeb, 24/7/2024.
[22] “Gaza Humanitarian Response Update | 8: 21 July 2024”, OCHA, 21/7/2024.
[23] Lama Abdul Samad, Martin Butcher & Bushra Khalid, “Water and War Crimes: How Israel Has Weaponised Water in its Military Campaign in Gaza”, Oxfam (2024).
[24] “Gaza Strip: WASH Infrastructure Damage Assessment”, Analysis of data presented in WASH Cluster Meeting note (12 June 2024) based on finding of UNOSAT (3 June 2024).
[25] "أطنان النفايات في قطاع غزة.. مصدر للأمراض وعقبة في وجه النازحين الفلسطينيين"، وكالة الأنباء القطرية، 8/7/2024.
[27] “Gender alert: Scarcity and fear: A gender analysis of the impact of the war in Gaza on vital services essential to women's and girls' health, safety, and dignity – Water, sanitation, and hygiene (WASH) [EN/AR]”, by OCHA, ReliefWeb,16/4/2024.
[28] “Gaza Humanitarian Response…”, op. cit.
[29] "اليونيسف تحذر من التأثير المميت لشح المياه على الأطفال في غزة، وأول قافلة مساعدات تصل القطاع مباشرة من الأردن"، الأمم المتحدة، 20/12/2023؛
"'آكشن إيد‘: نقص المياه الصالحة للشرب في غزة تسبب بانتشار الأمراض"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، 23/3/2024؛
29 WASH Cluster Reports (2 June 2023). State of Palestine national WASH Cluster update.