Skip to main content

في وسط قطاع غزة مساحات شاسعة لم يبقَ فيها أي معلم من معالم الحياة، مدناً وقرىً ومخيمات. كل هذه المعالم مُسحت بأكملها، ومنها كذلك منشآت حكومية وخدماتية واقتصادية وطبية، لم يبقَ لها أثر، ومئات الكيلومترات من الأراضي الزراعية جُرفت. هكذا أحال جيش الاحتلال الإسرائيلي المناطق التي أنشأ عليها محور "نيتساريم" إلى خراب، وهو الذي أُقيم على أنقاض مدينة الزهراء، وقرية المغراقة، وقرية جحر الديك وسط القطاع، والأحياء الجنوبية من مدينة غزة، كمنطقة الشيخ عجلين والنابلسي وأجزاء من أحياء الزيتون وتل الهوا.

وبعد عودة سكان هذه المناطق إلى ركام منازلهم في إثر اتفاق وقف إطلاق النار، في 19 كانون الثاني/يناير 2025، ومحاولتهم تهيئة مناطقهم للاستقرار فيها، عاودت إسرائيل استئنافها الحرب في 18 آذار/مارس 2025 بعشرات الغارات الجوية التي استهدفت منازل وخياماً ومدارس ومساجد، وهو ما أسفر عن ارتقاء قرابة 500 شهيد، وآلاف المصابين.

وشمل الهجوم تنفيذ الاحتلال ما يُعرف بالأحزمة النارية داخل مناطق محور نيتساريم، الأمر الذي أدى إلى حركة نزوح من المحور تجاه جنوب القطاع خلال الليل.

وقد قابلنا الحاج الستيني محمود منيفي خلال انتقاله إلى مدينة دير البلح وهو يحمل أمتعة ثقيلة على ظهره، وقد بدت عليه علامات الإرهاق والضنك، ويسير معه قرابة 20 فرداً من عائلته، أغلبهم من الأطفال والنساء.

 


المغراقة. تصوير محمد النعامي (19 آذار/مارس 2025)

 

وقال محمود منيفي في حديثه أنه استيقظ فزعاً في خيمته التي بناها على أنقاض منزله في قرية المغراقة وسط القطاع، في إثر صوت سلسلة من الغارات الشديدة، وصوت بكاء أحفاده، ومع الوقت اشتد القصف، وبعد مرور أقل من ساعة، حدث حزام ناري في الأراضي المجاورة لمكان خيمته، وهو ما اضطرهم إلى المغادرة فوراً تجاه مخيم النصيرات، والمبيت في مسجد كانت أبوابه قد فُتحت للمعتكفين في شهر رمضان.

وأضاف: "ظننا أن الحرب انتهت، وعمّرنا لنفسنا خيمة، لنُصدم بعودة الحرب بصورة أكثر دموية وقسوة، وهربنا في الظلام الدامس بملابسنا وبعض الأغطية إلى النصيرات، ونحن الآن نتجه إلى مدينة دير البلح، وإذا لم نجد مكاناً نصنع فيه خيمة لنا، فسنكمل الطريق تجاه مواصي خان يونس، ونعلم أنه لا يوجد مكان آمن، ففي كل مكان وصلنا إليه كان الموت قريباً منا. ما نعيشه كابوس لا تبدو له نهاية في الأفق."

وقبيل عودة الحرب بعدة أيام، زرنا المناطق التي أُقيم عليها حاجز محور "نيتساريم"، ورصدنا آثار الدمار الذي خلّفه جيش الاحتلال هناك، كما وثّقنا بالصور مشاهد الدمار الشامل الذي تسبب بتجريد آلاف العائلات من منازلها، وتدمير البنى التحتية في هذه المناطق بالكامل.

 


مدينة الزهراء وتلال من الركام. تصوير محمد النعامي (19 آذار/مارس 2025)

 

وكانت أولى محطاتنا مدينة الزهراء التي تتوسط الجانب الغربي من وسط قطاع غزة، والتي كانت أجمل مناطق القطاع من حيث العمارة والمباني والطرقات والمساحات الخضراء، كما كانت مركز ثقل إداري وتعليمي وخدماتي على مستوى قطاع غزة، إذ حَوَتْ مقرات حكومية عديدة، فإلى جانب قصر العدل مركز القضاء، وعدد من الجامعات والمدارس والمستشفيات والمنتجعات وصالات الأفراح والمناطق الترفيهية والاستراحات البحرية والمشاريع التجارية.

دمر الاحتلال مدينة الزهراء بالكامل، ولم يعد في مقدور سكان المدينة المنكوبة التعرف على مناطقهم، أو حتى تمييز أين كانت منازلهم بالتحديد، وأين كانت مواقع الطرق القديمة، غير تلك التي شقتها آليات الاحتلال وسط الركام.

ولم تشهد الزهراء عودة كبيرة لسكانها نظراً إلى حالة الدمار الهائل وانعدام الخدمات وسبل الحياة واستهداف الاحتلال أي مركبة تصل إليها، حتى خلال وقف إطلاق النار.

ولم يُبقِ الاحتلال في مدينة الزهراء سوى بعض المباني التي كان يتخذها مقرات عسكرية لجنوده، وكان بينها مستشفى الصداقة التركي، لكن مع استئناف الحرب ومعاودة الاحتلال التوغل في "نيتساريم" ومدينة الزهراء، قام جنود الاحتلال بنسف هذا المستشفى الذي جرت له خلال وقف إطلاق النار محاولات ترميم لاستئناف العمل فيه.

وتوجهنا شرق مدينة الزهراء، حيث قرية المغراقة التي تقع شمالي مخيم النصيرات، وتضم مناطق سكنية وزراعية، وعُرفت بأنها منطقة هادئة ذات طبيعية ريفية، يمتهن أكثر سكانها الزراعة، لكن خلال الحرب، ضمها الاحتلال إلى محور "نيتساريم"، وأقام فيها موقعاً عسكرياً واحداً على الأقل. وإلى الجانب الغربي من شارع صلاح الدين، كانت تجري عمليات تعذيب وتنكيل وتحقيق مع النازحين الذين يتم اعتقالهم خلال نزوحهم من مدينة غزة تجاه الجنوب، بحسب ما أفاد شهود عيان.

كما توجهنا إلى قرية جحر الديك التي تقع شرقي قرية المغراقة، وتمتد من شارع صلاح الدين وسط القطاع حتى الحدود الشرقية، ويحدها جنوباً مخيم البريج، وشمالاً حي الزيتون، وبعكس باقي المناطق، كان لجحر الديك تاريخ طويل مع الحروب الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، إذ كانت هذه المنطقة بوابة دخول الاحتلال إلى القطاع؛ كما في حربَي 2008 و2014، وفي كلتيهما دمر الجيش الإسرائيلي القرية، لكن في الحرب الحالية، كانت الجزء الرئيسي في سيطرة الاحتلال على محور "نيتساريم"، وطريق الإمداد الأساسي لقواته.

ولحق بقرية جحر الديك ما لحق بسائر مناطق محور "نيتساريم"، إذ دمر الاحتلال كل مناطق القرية، وجرف مناطقها الزراعية التي كانت تُعرف بأنها سلة غذاء قطاع غزة: من خضروات وفواكه وثروة حيوانية، وكل هذا لم يبقَ له أثر.

 


(موقع استخدم كثكنة عسكرية إسرائيلية قرب شارع الرشيد الساحلي في نيتساريم. تصوير محمد النعامي (19 آذار/مارس 2025)

 

وضم محور "نيتساريم" أجزاء من أحياء الزيتون وتل الهوا، وكامل منطقة الشيخ عجلين، وهي مناطق طالها الدمار، ورصدنا حجم الدمار الذي حدث في المناطق الجنوبية لمدينة غزة، التي إمّا كانت ضمن محور "نيتساريم"، وإمّا كانت تطل عليه.

وعقب وقف إطلاق النار ومعاينة الدمار الجاري، أعلنت بلديات مدينة الزهراء وقرية المغراقة وجحر الديك أن الاحتلال الإسرائيلي قام بتدمير جميع مناحي الحياة في هذه المناطق، وحوّلها إلى منطقة منكوبة غير قابلة للعيش.

وقال د. نضال نصار، رئيس بلدية الزهراء، في تصريحات صحافية، إن الاحتلال تعمّد خلال عدوانه تدمير كل المباني ومساكن المواطنين داخل نفوذ البلديات الثلاث، وهو ما تسبب بهدم ما يقارب 13,200 وحدة سكنية، وأصبح عشرات الآلاف من المواطنين بلا مأوى.

وكذلك تم تدمير المرافق التعليمية كافة؛ من مدارس وجامعات ورياض أطفال، ويُقدر عددها بـ 28 منشأة تعليمية، وهو ما أدى إلى حرمان آلاف الطلبة من التمتع بحقهم في التعليم.

وأكمل نصار: "كما أن الاحتلال دمّر وجرّف كل الطرق التي يُقدَّر طولها بما يزيد على 100 كيلومتر طولي من الطرق، وقام بتعطيل الخدمات الصحية، إذ قصف ودمر كل المستشفيات والمراكز الصحية، والعديد من المنشآت والمباني العامة والحكومية والخاصة."

وأوضح أن إجمالي الخسائر داخل نفوذ البلديات الثلاث يقدَّر بنحو مليار دولار في جميع القطاعات المتعددة.

مناطق مكسوة بالعظام

ولم يكن الدمار هو المعلم الوحيد لمناطق محور "نيتساريم" - أو ما اصطلح الفلسطينيون على تسميته "محور الموت" - بل أيضاً جثامين الشهداء المتناثرة في مناطق متفرقة من المحور على شكل هياكل عظمية، أو أجساد متحللة بالكامل لم يبقَ منها سوى الملابس.

وتركزت أماكن العثور على الجثث في المناطق التي أُقيمت فيها مواقع عسكرية ومراكز تحقيق داخل المحور وبوابات تفتيش النازحين والمناطق الشمالية لمخيم النصيرات، إذ أنشأ الاحتلال خطاً وهمياً غير معلن شمال المحافظة الوسطى، وكان يعدم كل من يقترب إليه.

وبدوره، قال الشاب صهيب ذياب أنه زار مناطق شمال النصيرات عقب انسحاب الاحتلال من "نيتساريم"، ووجد هناك العديد من الجماجم والعظام المتناثرة، وبعضها وجد حولها بطاقات شخصية دلت على هوية الشهداء، والبعض الآخر لم يتبقَّ من مقتنياتهم شيء.

وأضاف في حديث معنا: "منذ انسحاب الاحتلال من وسط القطاع، وحتى عودة الحرب، وأنا أذهب يومياً إلى مناطق 'نيتساريم‘، حيث أعمل في جمع الحطب، وبصورة يومية كنا نجد العديد من الجثث والعظام، وكنا نجد أيضا جثثاً بلا جماجم، كما وجدنا بقايا بشرية في برميل في قرية المغراقة. وهذا يثبت أشكالاً قاسية من عمليات الإعدام التي كان ينفذها الاحتلال بحق النازحين."

وأكد ذياب أن العدد الأكبر من الجثث موجود تحت الرمال، إذ كانت آليات الاحتلال تلقي بالرمال على الجثث لتحمي الجنود من توابع تحللها، وأوضح أنه صادف عدة مرات عظاماً بشرية عندما كان يحفر ليصل إلى جذور الأشجار.

 

المراجع

"إعلام إسرائيلي: نتساريم محور وهمي يستخدمه الجيش لقتل الفلسطينيين". "الجزيرة نت". 25/12/2024. 

"بلديات وسط قطاع غزة تعلن مناطقها 'منكوبةً‘". "العربي الجديد". 10/2/2025.

 

Content source site
promoted_date
publication year
2025
promoted_image
Paper's Language