تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
الآثار الأولية للحرب على قطاع غزة: قطاع المياه نموذجاً
سنة النشر
اللغة
عدد الصفحات
9

المقدمة

تبلغ مساحة قطاع غزة 365 كيلومتراً مربعاً، ويقطنه نحو 2.17 مليون نسمة بكثافة سكانية مرتفعة جداً؛ تبلغ 5936 شخصاً في الكيلومتر المربع الواحد، كما أنه يمتاز بنمو سكاني مرتفع بالنسبة إلى دول المنطقة، إذ تصل هذه النسبة إلى 2.8%، بالإضافة إلى أن متوسط حجم الأسرة مرتفع أيضاً مقارنة بالدول العربية (5.7 فرد) (جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، 2022).

ومن الناحية المناخية، يبلغ معدل سقوط الأمطار 400 ملم في شمال القطاع، وينخفض إلى أن يبلغ 200 ملم في جنوبه، وتُقدر كمية الأمطار التي تسقط على غزة بنحو 100 مليون إلى 130 مليون متر مكعب سنوياً؛ يذهب منها ما يقارب 50% جرياناً سطحياً، ويُخزن 65 مليون متر مكعب منها في باطن الأرض كمياه جوفية، والتي بالمناسبة تُصنف بين مياه مالحة ومياه شديدة الملوحة في غزة، ضمن نسب تتجاوز تلك المسموح بها من جانب منظمة الصحة العالمية (250 ملغراماً لكل لتر).

وبناء على تقارير دولية، وتقارير سلطة المياه الفسطينية، فإن 97% من مياه قطاع غزة غير صالحة للاستهلاك الآدمي. ويبلغ معدل استهلاك الفرد 22.4 لتراً/فرد يومياً، وهو يشكل تقريباً 20% من المعدل الموصى به من جانب منظمة الصحة العالمية لاستهلاك آدمي آمن (سلطة المياه الفلسطينية، 2022).

وبعد العدوان الإسرائيلي (تشرين الأول/أكتوبر 2023)، انخفضت كمية المياه المتاحة لقطاع غزة إلى 3 لترات يومياً للفرد CNN)، 2023) بسبب توقف الآبار عن الضخ لعدم وجود الكهرباء، كما كانت توجد محطات تحلية متوسطة وصغيرة تساهم فقط في 6% من الاستهلاك، وقد تعطلت في أثناء الحرب بسبب عدم وجود الوقود، بالإضافة إلى مصدر ثالث توقف وقتها؛ وهو شركة ميكوروت الإسرائيلية التي كانت تزود القطاع قبل الحرب بـ 10 ملايين متر مكعب.

ووفقاً لتصريح رئيس سلطة المياه الفلسطينية، فإن غزة تحصل على 6000 متر مكعب يومياً من ميكوروت، علماً بأن حاجتها اليومية تبلغ 33,000 متر مكعب (CNN، 2023).

ويشكل توفير المياه من المصادر غير التقليدية مشكلة اقتصادية كبيرة للأسر الفلسطينية في القطاع، إذ يبلغ معدل إنفاق الأسرة على المياه في غزة (المبتاعة من التحلية) 3.3% من الدخل (في مجتمع تصل فيه مستويات الفقر إلى 60%)، بينما يبلغ المعدل العالمي للإنفاق على المياه 1%.

أسباب تدهور كمية المياه في قطاع غزة ونوعيتها

تتعدد أسباب تدني كمية المياه في القطاع ونوعيتها للأسباب التالية:

  • الإجراءات الإسرائيلية: فقد تم استنزاف جزء كبير من المياه الجوفية من جانب المستوطنات الإسرائيلية في الفترة 1967-2005؛ إذ قُدرت المياه التي كانت تستهلكها هذه المستوطنات بنحو (15 مليون متر مكعب سنوياً)، أي نحو 25% من قدرة الخزان الجوفي في غزة.
  • النمو السكاني: ويُعتبر قطاع غزة الأكثر اكتظاظاً في الإقليم، وذا نمو سكاني مرتفع، الأمر الذي أدى إلى زيادة الضخ من المياه الجوفية، وهو ما ساهم في اجتياز التملح للمستويات المقبولة للمياه (بالإضافة إلى دخول مياه البحر المياه الجوفية).
  • زيادة كميات المياه العادمة: وهي المياه التي تتسرب إلى المياه الجوفية بسبب النقص في محطات التنقية لمياه المجاري، مع زيادة كمياتها لتصل إلى 60 مليون متر مكعب، لا يعالَج منها سوى 20%، والمتبقي يذهب إلى البحر أو الطبقة الجوفية.
  • الاستخدام المفرط للمبيدات والأسمدة الكيماوية: وذلك في الزراعة، الأمر الذي ساهم في تدهور نوعية المياه.
  • حجز وادي غزة: وكانت إسرائيل قد أقامت سدوداً صغيرة خارج حدود القطاع، لكنها تؤدي إلى عدم دخول المياه من الوادي إلى غزة، الأمر الذي يساهم في عدم تغذية الحوض، ويتسبب في تردي تزويد نوعية المياه في القطاع (التميمي، 2022).

الآثار الأولية لحرب 2023 في قطاع المياه في غزة

خلف الاجتياح العسكري الكبير (2023) أثراً سلبياً في قطاع المياه، وخصوصاً تدمير البنية التحتية وقطع المياه المستوردة من إسرائيل، وهذا الأمر فيه درس مستفاد؛ وهو أن تزويد القطاع بكمية من المياه عن طريق إسرائيل هو أمر عالي الخطورة، ويستعملة الاحتلال كسلاح ضد أهل غزة، وهو التعطيش. كما أن الكيان في مرات عديدة هدد بفتح السدود الصغيرة على وادي غزة لإغراق القطاع في موسم الفيضانات. ويمكن تلخيص الآثار الأولية للحرب[1]  بالآتي:

  1. تدمير البنية التحتية لشبكات المياه: إذ أشار تقرير أولي أن نحو 40% من شبكة مياه مدينة غزة تم تدميرها، وأن المحطات الرئيسية للضخ تعطلت، إمّا بسب القصف، وإمّا بسبب عدم إدخال الوقود.
  2. تلوُث المياه الجوفية: ومن المتوقع أن تتم زيادة في تلوث المياه الجوفية بسبب تدمير محطات التنقية، أو بسبب توقفها عن العمل، الأمر الذي يسمح بتسرب المياه العادمة إلى الخزان الجوفي.
  3. نقص المياه: وبسبب ذلك، اضطر المواطنون إلى شرب مياه غير نظيفة (ملوثة بيولوجياً وكيمائياً)، أو مياه عالية الملوحة، وهو ما سيؤدي إلى انتشار الأوبئة، وخصوصاً الأمراض المعدية والفشل الكلوي.
  4. أصبح عمق البحر إلى مسافة 700 متر على طول قطاع غزة منطقة ملوثة، وذلك بسبب الإفراط في ضخ مياه الصرف الصحي، وهو ما ألحق ضرراً بليغاً بالشواطئ، وبالتالي، فقد أصبحت المنطقة هذه غير صالحة للصيد.
  5. بلغ حجم الأضرار في البنية التحتية للمياه خلال حرب 2014 نحو 34 مليون دولار، بينما يقدر حجم الأضرار الناتجة من هذه الحرب حتى الآن 1 مليار دولار.[2]

الحاجات المستقبلية من المياه لقطاع غزة

من المهم الإشارة إلى أن الحاجات المستقبلية بعد الحرب القائمة على قطاع غزة، والتي بدأت في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أدت إلى تدمير كبير في البنية التحتية لشبكات المياه ومحطات الضخ وتحلية مياه البحر ومحطات تنقية المجاري، وبالتالي، فقد أصبحت هناك حاجة إلى إعادة الإعمار والتطوير.

ووفقاً لإحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء، وتقديرات السكان المعدة من عدد من الخبراء،[3]  فالمتوقع هو كالآتي:

3.12، و3.55، و3.96 في السنوات 2035، و2040، و2045، على التوالي، وفقاً للأعداد ستكون حاجة قطاع غزة إلى المياه وفقاً للجدول التالي: (التميمي، 2023).

 

السنواتالاستهلاك (مليون متر مكعب سنوياً)
                المنزليالصناعيالزراعي
2023201,228,442
2040226,138,931
204525452,418

 

هناك إمكان لأن يتم استخدام المياه المعاد معالجتها إلى درجة قبولها (جعْلها نقية إلى الحد الآمن) ضمن القطاع الزراعي في 80% من الزراعة.

أمّا إعادة إعمار البنية التحتية التي دمرها العدوان الأخير، فستقلب الأولويات من التطوير إلى إعادة تأهيل المدمَر منها، ومن المتوقع أن تغطي عملية إعادة الإعمار هذه 60% من الشبكات وخزانات التزويد ومحطات الضخ.

مصادر المياه المتاحة والممكنة في المستقبل (2045)

 تعتمد المصادر المتاحة على عوامل كثيرة، أهمها:

  • الوضع السياسي وتوجهات السلطة الفلسطينية نحو التعاون الإقليمي ومشاريع التنمية الممكنة.
  • الرغبة أو عدمها في شراء المياه من إسرائيل كما هو الحال الآن.
  • تطوير مشاريع التحلية كما هو مخطط له، لتصل إلى 500 مليون متر مكعب سنوياً أو الامتناع من ذلك.

التحليل والنتائج

بناءً على الوضع السياسي والاقتصادي المعقد في قطاع غزة، يمكن استخلاص الآتي:

  1. إن استقرار الوضع السياسي في القطاع هو المحرك الأساسي لإيجاد حلول لمشكلة المياه، ومن دون هذا الاستقرار، فلن يكون التمويل اللازم لمحطة تحلية مركزية ممكناً، ولا تطوير البنية التحتية.
  2. إن بناء محطة تحلية كبيرة، وهو الحل الأفضل، يحتاج إلى محطة طاقة، لأن 75% من تكلفة التحلية مخصصة للطاقة، التي في حال استيرادها أو إنتاجها، ستتراوح تكلفة المياه المحلاة بين 1.2 و1.7 دولار للمتر المكعب، وهذا لا يتسق تماماً مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للقطاع.
  3. إن إنشاء محطات تحلية كبيرة لها أثار اقتصادية واجتماعية وبيئية كبيرة، منها قذف ملايين الأطنان من الملح الخارج من محطات التحلية إلى الشواطئ، وهذا سيهدد الثروة السمكية من جهة، وسيؤدي من جهة أُخرى إلى تلوث الشواطئ. ومن الناحية الاجتماعية أيضاً، فإن تكلفة التحلية لا تتناسب مع البنية الاجتماعية في قطاع غزة من حيث حجم الاستهلاك (إن عدد أفراد الأسرة الممتدة كبير).
  4. تحتاج التحلية إلى إدارة فاعلة بمستوى عالٍ، وبالتالي، فهي في حاجة إلى إطار مؤسساتي (شركة متخصصة)، واستقطاب شركات أجنبية ذات خبرة سيزيد التكلفة بسبب مصاريف هذه الشركات العالمية ورغبتها في الربح.
  5. يبلغ الفاقد في البنية التحيتة والشبكات في قطاع غزة 40-50%، فمن غير المجدي اقتصادياً ضخ مياه عالية التكاليف (التحلية) في شبكات قديمة، لأن نسبة الفاقد من المياه المحلاة ستصل إلى 40-50%، الأمر الذي سيجعل التكلفة مضاعفة، وهو ما لا يتحمله قطاع غزة.
  6. إن المياه المحلاة غير مجدية في القطاع الزراعي، وهو الأمر الذي سيوجب تخصيص كميات من المياه الجوفية للزراعة، وبالتالي، سيتعرض الخزان الجوفي لمزيد من الاستنزاف، وما يَنْتُج منه عذباً سيكون فيما بعد مالحاً.

وبناء على ذلك، وأخذاً بعين الاعتبار المعوق السياسي (الانقسام، والغزو الإسرائيلي الدائم الذي يدمر البنية التحتية كل فترة)، يمكن حساب الكميات المتاحة، والتي ستتوفر في قطاع غزة، وفقاً للسيناريوهات التالية: 

  • السيناريو الممكن: وهو بقاء حالة الصراع إلى فترة زمنية ضمن حدود هذه الدراسة، أي سنة 2045، وبالتالي سيكون عدد سكان قطاع غزة نحو 4 ملايين نسمة سنة 2045، ومجموع الحاجة إلى كل الأغراض سيكون 325.2 مليون متر مكعب، بينما سيكون هناك فقط ما لا يتجاوز 200 مليون متر مكعب من المصادر كافة، الأمر الذي يُحدث عجزاً يقارب 125 مليون متر مكعب سنوياً.
  • السيناريو المتوقع: إعادة إعمار غزة وتزويدها بمياه من إسرائيل، وزيادة كميات المياه المحلاة في غزة، وبالتالي ستكون كمية المياه المتوقع وصولها من جميع المصادر 200 مليون متر مكعب من التحلية، و50 مليون متر مكعب من إسرائيل (على أسس تجارية)، و100 مليون متر مكعب من المصادر المحلية. وفي هذه الحالة، سيتقلص العجز في سنة 2045 ليصل إلى 25 مليون متر مكعب سنوياً. لكن هذا الخيار عالي الخطورة، لأن إسرائيل ستكون متحكمة في المياه، وستُلدغ غزة من هذا الجحر أكثر من مرة.
  • السيناريو المفضل: وهو اعتماد قطاع غزة كلياً على مصادرها المحلية، وهذا وفقاً لتقديرات سلطة المياه؛ والتي تقول إنه يمكن تحلية 500 مليون متر مكعب من المياه، بالإضافة إلى المصادر الطبيعية، وهكذا سيتم تغطية العجز بالكامل، ولكن هذا مرتبط بالاستقرار السياسي، وبتمويل يصل إلى 5 مليارات دولار للتحلية فقط، بالإضافة إلى مصادر طاقة، سواء ببناء محطة إنتاج طاقة أم استيرادها. هذا فضلاً عن استقرار المؤسسات ووجود إدارة فاعلة لهذا المرفق.
  • سيناريو إعادة الإعمار: إذا انتهت الحرب في الوقت القريب، فإن السيناريو الذي سيفرض نفسه على أولويات القطاع وهو إعادة الإعمار للبنية التحتية لقطاع المياه التي، كما أشرتُ سابقاً، ستزيد التكلفة التقديرية لها على 2.1 مليار دولار، بالإضافة إلى موازنة تقديرية للتطوير، لمواجهة الحاجات في العشر سنوات القادمة، تبلغ 1.4 مليار دولار. أي إن القطاع في حاجة إلى 3.5 مليار دولار لإعادة الإعمار وتطوير قطاع المياه في العشر سنوات القادمة.

الخلاصة

من استعراض الوضع المائي القائم والسيناريوهات المستقبلية لأوضاع المياه في قطاع غزة، يمكن استنباط النتائج التالية:

  • لا يوجد حل لأزمة المياه في قطاع غزة في ظل الأوضاع السياسية القائمة.
  • إن استيراد المياه من إسرائيل أو من خارج قطاع غزة عملية مكلفة لا يستطيع المواطن الفلسطيني تحمُّل تكلفتها.
  • لا ينسجم خيار التحلية من البحر مع الأوضاع الاقتصادية والمؤسساتية الحالية في قطاع غزة، إذ أن نسب الفقر مرتفعة جداً، والإطار المؤسساتي مهترئ إلى حد كبير.
  • إن الحل الأفضل لقطاع غزة هو ربطها بشبكة مياه من جنوب الضفة الغربية بعد حفر آبار جوفية في الحوض الغربي، وهذا سيكون حلاً وطنياً ومجدياً اقتصادياً، ويحل جزءاً من المشكلة المائية في القطاع.
  • وأخيراً، يرى الباحث أن إعلان قطاع غزة كمركز لدولة فلسطين، وإعلان الضفة الغربية والقدس جزءاً محتلاً من جانب الدولة (وهذا يأتي باتفاق وطني) يشكل سيناريو تنمية متكاملاً (فيه بناء ومطار وسكان مؤهلون)، ومشاريع نموذجية على غرار محطة طاقة شمسية كبيرة وطاقة رياح ريادية. بالإضافة إلى أن تواصل قطاع غزة مع العالم يمكن أن يساهم، إلى حد كبير، في تحويل الطاقة البشرية من التكدس السلبي الضاغط إلى الفعل الإيجابي المؤثر، وهناك أمثلة كثيرة لأقاليم (مع ملاحظة فوارق الأوضاع) استقلت وأصبحت نموذجاً في التنمية؛ كسنغافورة، وقبرص الشمالية وغيرها.

 

 المراجع

  1. "السكان عام 2022". رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
  2. "استراتيجية قطاع المياه: 2024-2032". رام الله: سلطة المياه الفلسطينية، 2022.
  3. "أوضاع المياه قي قطاع غزة". "CNN, 19/10/2023.
  4. المصدر نفسه.
  5. التميمي، عبد الرحمن. "المياه الفلسطينية: من السيطرة إلى الضم". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2021.
  6. "المخطط المكاني لدولة فلسطين". نابلس: مؤسسة منيب وأنجلا المصري، مجلس الوزراء الفلسطيني (تحت النشر).

     

[1]  لم تتوقف الحرب حتى إعداد هذا التقرير.

[2]  الرقم من تقدير الباحث.

[3]  وفيق ديب، "الإسقاطات السكانية لدولة فلسطين حتى عام 2050"، مشروع الخطط الوطني المكاني الشامل (2023).

عن المؤلف

عبد الرحمن التميمي: حائز درجة دكتوراه في هندسة المياه، وماجستير في الدراسات الدولية. يشغل منصب مدير عام جمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين، وهو محاضر غير متفرغ في كل من جامعة القدس والجامعة العربية الأميركية، وله العديد من الدراسات المنشورة.

صدر له عن المؤسسة:

المياه الفلسطينية: من السيطرة إلى الضم