تسببت حرب الإبادة بكارثة إنسانية تُلقي بظلالها على جميع جوانب الحياة، مخلفةً آثاراً طويلة الأمد في الصحة الجسدية والنفسية للفلسطينيين في قطاع غزة؛ فإلى جانب الدمار الهائل الذي يلحق بالمباني والطرق والمرافق الحيوية، تترك الحرب وراءها بيئة غير صالحة للحياة، حيث تنتشر الأمراض، نتيجة التلوث ونقص الرعاية الطبية وسوء التغذية وانعدام مقومات الحياة الأساسية. فقد خلّفت الحرب تلوثاً بيئياً واسع النطاق نتيجة الركام والغبار الناتج من القصف، فضلاً عن تسرب المواد السامة من البنية التحتية المدمرة، وهو ما ساهم في انتشار أمراض الجهاز التنفسي، كالربو والتهابات الرئة. كما أن تكدّس النازحين في المخيمات والملاجئ الموقتة وسط غياب الصرف الصحي المناسب وشحّ المياه النظيفة، كله أدى إلى تفشّي الأمراض المعدية، كالتهاب الكبد الوبائي، والإسهال الحاد، والأمراض الجلدية كالجرب والقمل.
وألخص هنا بعض الأمراض الناجمة عن الحرب:
- التهاب الكبد الوبائي (A):
يُعد من أكثر الأمراض انتشاراً نتيجة تلوث المياه وعدم توفر مياه الشرب الآمنة. فمع تدمير شبكات المياه والصرف الصحي، اضطر الناس إلى الاعتماد على مصادر ملوثة، الأمر الذي أدى إلى تفشّي الفيروس على نطاق واسع. وقد انتشر المرض بصورة كبيرة بسبب استخدام الحمامات العامة في المخيمات، وللأسف، فإن هذا المرض لا يوجد له علاج، وتبدأ أعراضه بإرهاق شديد، وإجهاد عام في الجسم، وغثيان، وعدم القدرة على تناول أي طعام.
وقد أُصبتُ شخصياً بهذا المرض بعد استخدام حمام عام، ولم أتخيل أبداً أن دقيقة واحدة في ذلك الحمام ستسبب لي كل هذا الألم والندم لاحقاً. وبعد بضعة أيام، بدأت أعراض الفيروس تظهر، فشعرت بإرهاق شديد في جميع أنحاء جسدي، ولم أستطع الوقوف على قدمَيّ لدقائق معدودة، أو أن أتناول أي شيء، وكان الغثيان والتقيؤ مستمرَين، وشعرت وكأن أحشائي تخرج من داخلي، ولم أكن قادرة حتى على التقيؤ بصورة صحيحة، وفقدت شهيتي تماماً. ونتيجة ذلك، فقدت ستة كيلوغرامات من وزني، وبكيت من شدة الألم، وكنت خائفة من نقل العدوى إلى عائلتي، وخصوصاً أطفال أختي الصغار. لم أرد لهم أن يمروا بما عشته.
- التسمم الغذائي:
أدى انقطاع الكهرباء وتدمير شبكات التخزين إلى فساد الطعام، وبالتالي، انتشار التسمم الغذائي بين السكان، وخصوصاً في الملاجئ المكتظة بالنازحين. وتضم المخيمات عشرات الآلاف من النازحين الذين اضطروا إلى ترك منازلهم ليواجهوا الآن أسوأ الأوضاع المعيشية. ومع الأسف، فإنه يتم بيع الطعام الفاسد في كثير من الأحيان، ضِمن عملية خداع للناس اليائسين، فيتسبب ذلك لهم بالمرض. وتقول نورة حمدان - أم لخمسة أطفال – في هذا الصدد:
"أُصيب أطفالي بتسمم غذائي بعد تناول طعام قدّمه أحد المتبرعين. لم نكن نعلم أنه كان فاسداً بسبب انقطاع الكهرباء. ما زلت أتذكر فرحتهم وهم يأكلونه بحماسة شديدة بعد جوع قاسٍ عانينا جرّاءه." وتقول رهف صابر: "ذات يوم، وجدت بائعاً في السوق يبيع حليباً مجففاً، فشعرت بسعادة غامرة واشتريته، ثم عدت إلى المنزل، وعندما فتحته، كانت رائحته غريبة، لكنني اعتقدت أن هذه هي رائحته الطبيعية، وحاولت تحضير كوب منه، لكن مظهره وطعمه كانا الأسوأ على الإطلاق، فراجعت تاريخ انتهاء الصلاحية، ووجدت أنه منتهٍ، فعدت إلى البائع لتبليغه، لكنه أخبرني أن ذلك ليس مسؤوليته، ورفض استرجاعه. كيف يمكن لشخص أن يبيع حليباً منتهي الصلاحية عن قصد؟"
- أمراض الجهاز التنفسي:
أدى استنشاق الدخان والغبار الناتج من القصف، بالإضافة إلى العيش في ملاجئ مكتظة وغير صحية، إلى انتشار واسع للأمراض والالتهابات التنفسية، وخصوصاً في فترة الشتاء. كما أدى التعرض للدخان إلى تفاقم الحالات الصحية الموجودة مسبقاً. وفي هذا الصدد، تقول سعاد حسين، امرأة مسنّة فقدت منزلها، وعاشت في مدرسة مكتظة بعد القصف: "أُصبت بالتهاب رئوي حاد بسبب البرد والغبار، ولم أكن أستطيع التنفس بسهولة، ولم تكن هناك أدوية كافية. كل ما أريده هو العودة إلى منزلي." أمّا نور علي حسن، صديقتي منذ الطفولة، فقد قالت: "كانت ملاك وآلاء، شقيقتَاي، في بداية العشرينيات من عمرهما، عندما تم تشخيصهما بالتليُّف الكيسي، وهو مرض وراثي يؤثر في الرئتين والجهاز الهضمي عبر إنتاج مخاط كثيف يعوق التنفس والهضم. أتذكر حينما تعرض برج سكني قريب منا في مخيم النصيرات للقصف في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهو ما أدى إلى استشهاد شقيقي الأصغر عبد الرحمن، وصارت المنطقة بعدها ضبابية، ومظلمة، ومملوءة بالغبار، فلم أستطع التنفس."
ولجأت العائلة بعدها إلى منزل أحد الأقارب في رفح، لكن سرعان ما بدأت حالة ملاك وآلاء في التدهور، وبسبب نقص الأدوية وانقطاع التيار الكهربائي، ازدادت معاناة آلاء، فأصبحت شاحبة وضعيفة، مع اصفرار في عينيها ونزيف من فمها، وقد حاولت العائلة إنقاذها، فنقلوها إلى مستشفى في رفح، ثم إلى المستشفى الأوروبي قرب خان يونس، لكن حالتها استمرت في التدهور إلى أن فقدت القدرة على المشي. وفي فجر يوم الثلاثاء، 9 كانون الثاني/يناير 2024، عند الساعة الثالثة صباحاً، فارقت آلاء الحياة. وتقول نور في هذا الصدد: "وداعها كان مفجعاً، ودُفنت في رفح."
لكن المأساة لم تتوقف عند هذا الحد؛ فبعد وفاة آلاء، بدأت ملاك تعاني جرّاء الأعراض ذاتها: الضعف، واصفرار العينين، وفقدان القدرة على المشي، فسعى والدها جاهداً لإيجاد فرصة علاج لها خارج غزة، وبعد انتظار دام شهرين، حصلت على تصريح للعلاج في مصر، وسافرت برفقة شقيقتها هبة إلى مستشفى في العريش، لكن حالتها لم تتحسن، ولاحقاً، تم نقلها إلى مستشفى آخر في مصر، إذ تعرضت هناك لسوء المعاملة والإهمال الطبي. وعلى الرغم من الألم، فقد تمسكت ملاك بالأمل في الشفاء، لكن في يوم الجمعة، 19 نيسان/أبريل 2024، عند الساعة الثانية صباحاً، رحلت من دون أن تتمكن عائلتها من وداعها.
تستذكر نور شقيقتَيها بحب كبير، وتقول إن آلاء كانت خريجة إدارة أعمال تطمح إلى إكمال دراستها العليا في الخارج، بينما كانت ملاك قد حصلت حديثاً على شهادة في تعليم اللغة الإنكليزية. وتشعر بالحسرة لأنهما لم تعودا إلى النصيرات مع العائلة، وتختتم حديثها بدموع ووجع: "كنا نعلم أننا سنفقدهما، لكن لم أكن أتخيل أن يكون الألم بهذا الحجم. لا أستطيع تخيل العودة إلى المنزل من دونهما."
- الأمراض الجلدية:
أصبحت الأمراض الجلدية، كالجرب، والقمل، والالتهابات الفطرية شائعة بسبب نقص المياه النظيفة وانعدام النظافة الشخصية في ملاجئ النزوح. وفي معرض الحديث عن هذا الأمر، تقول الدكتورة إسلام الجوراني، التي تعمل في مستشفى شهداء الأقصى: "جاءتني طفلة تبلغ من العمر 10 أعوام تُدعى جِنان في أثناء عملي، وأعتقد أنها اختارتني لأنني امرأة، وشعرتْ بأنه سيكون من الأسهل أن تخبرني بمشكلتها بدلاً من طبيب آخر. كانت ترتدي الحجاب، وهو ما فاجأني نظراً إلى صغر سنها، فأخبرتني أنها تعاني جرّاء القمل في شعرها، وأنها تجد صعوبة في النوم بسببه، فطلبت منها خلع الحجاب لرؤية المشكلة، لكنها رفضت وقالت إن الأمر مجرد قمل، فشرحت لها أنني في حاجة إلى رؤية المشكلة لوصف العلاج المناسب، لكنها بدت محرجة، فأخذتها إلى مكان خاص بعيداً عن الأنظار، وعندما خلعت حجابها، صُدمت؛ إذ كان رأسها مستعمرة من القمل، وكان شعرها متيبساً إلى درجة أنه التصق بأذنيها، وعندما حاولت إبعاده، التهبت أذناها من الأوساخ والشعر المتشابك. كيف تحملت هذه الطفلة هذه الحالة؟ حينها فقط فهمت لماذا ارتدت الحجاب وشعرت بالخجل.
نصحتها بالاستحمام بشامبو خاص للقمل والاهتمام بشعرها، لكنها أخبرتني أنه لا يوجد ماء حيث تعيش، وأنها لا تستطيع تحمُّل تكلفة الشامبو. أردت مساعدتها، فوصفت لها كريماً خاصاً لأذنيها، ووجهتها للحصول عليه مجاناً من صيدلية المستشفى، لكن للأسف، لم يكن هناك شامبو للقمل متاح. وفي اليوم التالي، رأيتها في فناء المستشفى تحلق شعرها؛ فقد كان هناك حلاق يعمل بأدوات بسيطة في مقابل رسوم زهيدة. تلك الطفلة المسكينة. وقفت جانباً أشاهدها وهي تحلق شعرها، ولم أرغب في أن تراني وتشعر بمزيد من الإحراج، لكنها رأتني، وعندما تلاقت نظراتنا، رأيت في عينَيها حزناً عميقاً ودموعاً. لم أرِد التدخل أو جعلها تشعر بسوء، لذا عدت إلى عملي."
- شلل الأطفال:
إن أحد أخطر تداعيات الحرب والحصار توقُّف حملات التطعيم الأساسية، وعلى رأسها التطعيم ضد شلل الأطفال، وقد تسببت العمليات العسكرية والقصف المستمر، إلى جانب النزوح الجماعي، بتعطيل حملات التطعيم، وهو ما أدى إلى حرمان آلاف الأطفال، وخصوصاً أولئك دون سن الخامسة، من تلقّي اللقاحات الضرورية. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2024، اضطرّت منظمة الصحة العالمية إلى تأجيل الجولة الثالثة من حملة التطعيم بلقاح "nOPV2" الخاص بشلل الأطفال نتيجة عدم قدرة الفرق الطبية على الوصول إلى العائلات.
وفي وقت لاحق، ومع استمرار الحصار وإغلاق المعابر، تم تعليق حملة تطعيم أُخرى في نيسان/أبريل 2025 كانت تهدف إلى تلقيح أكثر من 600,000 طفل، بعد أن تم رصد فيروس شلل الأطفال في عينات من مياه الصرف الصحي، الأمر الذي ينذر بخطر تفشٍّ وشيك للمرض في غزة. وفي ظل الانهيار الكامل للنظام الصحي، وعدم قدرة الأطفال على الوصول إلى اللقاحات، يقف القطاع على شفا أزمة صحية جديدة يمكن أن تحصد أرواحاً بريئة أُخرى بصمت.
إن انقطاع اللقاحات لا يُهدد فقط بعودة أمراضٍ تم القضاء عليها عالمياً، بل أيضاً يكشف عن هشاشة الوضع الصحي في غزة؛ فشلل الأطفال، الذي يُمكن الوقاية منه بسهولة في الأوضاع الطبيعية، يمكن أن يتحول في القطاع إلى مأساة جماعية بسبب الحرب، فغياب التحصين لا يعني فقط إمكان الإصابة بالفيروس، بل أيضاً يعني إمكان إصابة آلاف الأطفال بإعاقات دائمة، في مجتمع يعاني أصلاً جرّاء ندرة مراكز إعادة التأهيل والدعم النفسي والاجتماعي.
وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن أي تأخير إضافي في استئناف حملات التطعيم سيؤدي إلى عواقب وخيمة. وفي ظل انعدام الأمن الغذائي، وسوء التغذية المنتشر بين الأطفال، تضعف مناعة الأجسام، ويصبح الأطفال أكثر عرضة للإصابة، ليس فقط بشلل الأطفال، بل أيضاً بأمراض خطِرة أُخرى. غزة اليوم لا تواجه فقط قصفاً وهدماً، بل أيضاً تهديداً صامتاً يتسلل إلى أجساد الأطفال في غياب اللقاح والرعاية.
التحديات أمام مقدمي الرعاية الصحية
مع استمرار الإبادة، أصبحت المستشفيات عاجزة عن تقديم الرعاية الطبية اللازمة بسبب نقص الموارد؛ فقد دُمّر العديد من المرافق الصحية، وأُغلقت أُخرى نتيجة القصف أو نفاد الإمدادات الطبية، كما تعرض الأطباء والممرضون لانتهاكات قاسية، إذ قُتل بعضهم في أثناء تأدية واجبهم، بينما اعتُقل آخرون، كالدكتور حسام أبو صافية، الذي لا يزال مصيره مجهولاً.
وفي ظل هذا الانهيار في القطاع الصحي، بات الأطفال وكبار السن وأصحاب المناعة الضعيفة في مواجهة مباشرة مع الأوبئة التي تفشت نتيجة الاكتظاظ وسوء الأوضاع المعيشية. وقد زاد غياب الرعاية الطبية واللقاحات من انتشار الأمراض المعدية، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأزمة الصحية بصورة خطِرة.
ومع استمرار الحصار وإغلاق المعابر، تعاني المستشفيات جرّاء نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، الأمر الذي يجعل علاج الأمراض التي يمكن السيطرة عليها في الأوضاع العادية أمراً شبه مستحيل.
إن آثار الحرب لا تتوقف عند انتهاء القصف، إنما تستمر في حصد الأرواح بصمت، عبر الأوبئة والأمراض التي تفشت نتيجة تدمير مقومات الحياة الأساسية. فالحرب لا تقتل فقط بالقنابل، بل أيضاً بالجوع والمرض وانعدام الرعاية الصحية، مخلفةً وراءها جروحاً لا تندمل في جسد المجتمع الفلسطيني.
هل تَحَسَّنَ الوضع في الفترة الأخيرة؟
لم يكن وقف إطلاق النار في غزة إلاّ استراحة هشّة في قلب الجحيم، سرعان ما تلاشت تحت وطأة تجدُد القصف والدمار، فبعد أكثر من عام وأربعة أشهر من حرب مدمّرة، تنفّس الناس الصعداء لوهلة، ظنّاً منهم أن معاناتهم الطويلة ربما تبدأ في التراجع، وأن أبواب المساعدات الإنسانية ستُفتح، وأن المستشفيات المنهكة ستلتقط أنفاسها، لكن ما إن بدأ الأمل يتشكل، حتى عاد صوت الصواريخ يعلو من جديد، وانهارت الآمال القليلة التي علّقها السكان على فترة التهدئة.
لقد استؤنف القصف، وأُعيدت الحواجز أمام القوافل الطبية، وعادت الطواقم الصحية إلى العمل تحت النيران، أو الهروب من مواقعها، في وقتٍ تتكدس فيه آلاف الحالات الطارئة بلا علاج. ولا يزال النظام الصحي في غزة في حالة انهيار شبه كاملة؛ فالمرافق مدمرة، والأدوية نادرة، والكوادر الطبية منهكة أو غادرت، أو في كثير من الأحيان باتت في عداد الشهداء. ومع تجدد القصف، ازداد عدد الإصابات الخطِرة، ولا سيما في صفوف الأطفال والنساء وكبار السن، بينما مقومات العلاج الأولي في معظم المناطق غير متوفرة.
وفي الوقت نفسه، استمر تفشّي الأمراض المعدية بوتيرة أسرع، مدفوعة بتلوث المياه، وانعدام خدمات الصرف الصحي، واكتظاظ المخيمات الموقتة. وقد تفشّى سوء التغذية الحاد بين الأطفال بصورة تنذر بكارثة طويلة الأمد؛ فعدد الأطفال المصابين ارتفع بصورة مأساوية، في ظل غياب الغذاء العلاجي وتأخُر إدخال الإمدادات. أمّا حملات التطعيم، التي كانت بصيص أمل في مواجهة الأمراض، فقد تم تعليقها مجدداً، ليبقى عشرات الآلاف من الأطفال غير محصنين ضد شلل الأطفال وأمراض أُخرى تهدد حياتهم.
