تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

في قلب قطاع غزة، حيث يفتك القصف الوحشي بمظاهر الحياة كافة، وتئن الأرض تحت وطأة الخراب المتواصل والجوع القاتل، تتكشف فصول مأساة من نوع آخر. فالحملة الإبادية، بآلتها الهوجاء، قضت على كل شيء، بما في ذلك الحيوانات المفترسة التي لا تزال حتى الآن تصارع الموت في صمت خانق داخل حدائق الحيوانات.

وقد كان قطاع غزة، وفق إحصاء بلدية غزة لسنة 2023، يحتضن 19 حديقة حيوان تضم نحو 100 حيوان مفترس، من أسود ونسور وغيرها.[1]  أمّا اليوم، فتقف هذه الحدائق على شفا الإبادة الكاملة، منهارة تحت وطأة القصف والتدمير وانعدام الغذاء والرعاية البيطرية، وكثير منها تُرك لمصيره بعد موت من كان يعتني بها. وقد تحولت هذه الحيوانات إلى شهود على فداحة الكارثة، ولا تزال حبيسة الأقفاص، تصارع الموت، بعدما خرجت من قائمة الأولويات وسط معركة البقاء البشري، في مشاهد مفجعة تحمل في طياتها وجعاً إضافياً.

حدائق الحيوان في غزة تحت النار

كشفت بلدية غزة عن مأساة مفجعة طالت "حديقة حيوان حي الزيتون"، التي كانت تؤوي مجموعات متنوعة من الحيوانات غير الأليفة والطيور، بينها أسود ونسور، قبل أن تتحوّل بفعل القصف العنيف إلى مقبرة صامتة تئن تحت أنقاض الموت والدمار.

 

المصدر: صفحة حديقة حيوان رفح على منصة فيسبوك، 19 تموز/يوليو 2022

 

وبحسب إفادة المهندس رائد لبد،[2]  مدير قسم حدائق الحيوان في بلدية غزة، فقد منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي طواقم البلدية من الوصول إلى الحديقة، على الرغم من محاولات حثيثة لإنقاذ ما تبقّى من الحيوانات المحاصرة. وأوضح لبد أن الطاقم تعرّض لاستهدافٍ مباشر عبر طائرات استطلاع إسرائيلية خلال إحدى محاولات الدخول لتأمين الغذاء والدواء، الأمر الذي أجبرهم على التراجع حفاظاً على حياتهم، مؤكداً أن هذا الاعتداء يُمثّل انتهاكاً صارخاً لمبادئ العمل الإنساني.

وأوضح لبد أن الأغلبية العظمى من الحيوانات نَفَقَت جوعاً أو تحت الأنقاض، ولم ينجُ سوى عدد محدود منها، لا يزال يصارع للبقاء في ظل غياب الغذاء والرعاية، وتحت وطأة التلوث والدمار. وأضاف أن تدهور الأوضاع الأمنية وغياب أي إمكان للدخول الميداني إلى الحديقة حال دون إجراء إحصاء دقيق للخسائر، إلاّ إن الصور الجوية المتوفرة تكشف عن كارثة بيئية مروّعة.

وذكرت بلدية غزة أن البنية التحتية لأغلب حدائق الحيوان في القطاع، بما فيها الأقفاص ومرافق الإيواء ومخازن الغذاء، قد دُمّرت بالكامل بفعل القصف، وهو ما يجعل إعادة إعمارها حالياً مَهَمَّة شبه مستحيلة، وخصوصاً في ظل الانهيار التام للقدرات اللوجستية والمالية للبلدية.

وقد أشارت بلدية غزة إلى أنه على الرغم من نجاح بعض مالكي حدائق الحيوان جنوب القطاع في إنقاذ عدد من الحيوانات ونقلها إلى أماكن أكثر أماناً قُبيل تدهور الأوضاع بصورة شاملة، فإن إفاداتهم وشهادات شهود العيان تؤكد أن الحيوانات التي جرى إنقاذها تُعاني جرّاء اضطرابات سلوكية ونفسية حادّة بسبب أصوات القصف المستمر، إلى جانب إصابات جسدية وأمراض خطِرة ناجمة عن سوء التغذية وتدهور الأوضاع البيئية في أماكن الاحتجاز الموقت.

وفي نداء عاجل، شدّدت بلدية غزة على ضرورة تدخّل دولي فوري لتوفير مستلزمات الإغاثة الأساسية للحيوانات المتبقية،[3]  من طعام وماء وعناية بيطرية، إلى جانب دعم جهود إعادة تأهيل حدائق الحيوان.

نزوح مع الحيوانات: رحلة هروب من الجحيم

في مشهدٍ يجسد حجم المأساة التي تعصف بالإنسان والحيوان في آنٍ واحد، يروي فتحي جمعة مالك حديقة حيوان رفح، خلال مقابلة صحافية،[4]  تفاصيل مأساته الشخصية التي تعكس وجهاً من وجوه الكارثة المركّبة في قطاع غزة.

فبعد أن صنّف الاحتلال الإسرائيلي مدينة رفح كمكان غير آمن بفعل كثافة القصف، اضطر جمعة إلى النزوح قسراً نحو وسط قطاع غزة، في رحلة محفوفة بالمخاطر تشبه الهروب من الجحيم، لا يحمل فيها سوى ما تبقّى من أمل. وبين أصوات القذائف وضيق الخيارات، لم يكن بمقدوره إنقاذ جميع حيواناته، فالأوضاع الميدانية كارثية، وتكاليف عربات النقل الباهظة أجبرته على اتخاذ أحد أكثر القرارات إيلاماً في حياته: التخلي عن الأسد واللبوتين، فتركها وراءه، ومعها أكثر من نصف الحيوانات الأُخرى تُصارع الخوف والجوع وراء القضبان في حديقة الحيوانات في رفح وحدها، وحمل بين يديه الأشبال الثلاثة التي أبصرت النور وسط الحرب. ترك الحيوانات مضطراً، وقلبه يعتصر ألماً، كمن يخلع جزءاً من روحه.

 

المصدر: صفحة حديقة حيوان رفح على منصة فيسبوك، 21 ابريل/نيسان 2025

 

وفي محاولة بائسة وأخيرة، عاد فتحي لتفقُّد تلك الحيوانات خلال الهدنة، لكنه لم يجد أثراً لها. ويقول في هذا الصدد: "لم أجد أثراً لها، ولا حتى هياكل عظمية، وهو ما أكد شكوكي بشأن استيلاء الاحتلال عليها."

ولم تكن هذه الخسارة الوحيدة، إذ يروي بحسرة كيف فقد ثعباناً كان ضمن الحيوانات القليلة التي تمكّن من اصطحابها معه خلال رحلة النزوح. وعلى الرغم من نجاته من القصف، فإن الثعبان لم يقوَ على الصمود في وجه الجوع وسوء التغذية، ففارق الحياة بصمت، ضحية أُخرى للكارثة.

وعلى الرغم من محاولات فتحي المتكررة لإجلاء حيواناته التي نزح معها، والتي تجاوزت ثلاث محاولات محفوفة بالخطر، فإن جهوده باءت بالفشل، إذ قضى القصف على بعضها، والتهم شبح المجاعة البعض الآخر، بينما تمسكت قلة قليلة بالحياة وسط أوضاع بائسة.

واليوم، يعتني فتحي بالأشبال الثلاثة في مكان مستأجر في وسط القطاع، بتكلفة تصل إلى 1000 دولار شهرياً، وبتكاليف إضافية، يضطر جمعة إلى شراء أحصنة أو حمير بأسعار تتراوح بين 300 و500 دولار للحيوان الواحد لإطعام حيواناته في ظل شح المواد الغذائية وارتفاع الأسعار.

ولم تقتصر مأساة فتحي على الأسود فقط، بل أيضاً كان يملك أربعة نسور قبل الحرب، اضطر إلى إطلاق سراح أحدها بسبب سلوكه العدواني الذي تفاقم بفعل الخوف وقلة الغذاء، أمّا الاثنان الآخران، فقد قُتلا جرّاء القصف، ولم يبقَ سوى نسر واحد يصارع من أجل البقاء. 

المنظومة البيطرية تنهار: حيوانات غزة بين الجوع والمرض

يُعبّر الدكتور بشار شحادة، أحد الأطباء البيطريين العاملين في بلدية غزة، خلال مقابلة معه[5]  عن قلقه العميق إزاء الأوضاع المأساوية التي تمر بها الحيوانات، وخصوصاً المفترسة منها، والتي تتطلّب رعاية غذائية وطبية دقيقة.

ويقول شحادة: "فقدنا أعداداً كبيرة من الحيوانات في قطاع غزة، والبقية في طريقها إلى الهلاك نتيجة تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية"، مشيراً إلى أن أسعار الأدوية البيطرية والأعلاف شهدت ارتفاعاً جنونياً بلغ 300% مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، وهو ما اضطر الطواقم إلى استخدام الأدوية المتاحة كمحاولة أخيرة لإنقاذ بعض الحالات.

وفي ظل انعدام مصادر الغذاء الأساسية، لجأ بعض مالكي الحيوانات إلى إطعامها أسماكاً معلبة كالتونة والسردين، كخيار اضطراري للبقاء، الأمر الذي أدّى إلى انتشار حالات "التسمم الزئبقي"، بسبب وجود الزئبق بصورة مركزة جداً في هذه المعلبات غير الصالحة للاستهلاك الحيواني. كذلك، فإن البعض لجأ إلى الخبز كخيار طارئ، لكنه لم يصمد طويلاً، إذ وصل سعر كيس الطحين إلى 300 دولار أميركي، وهو ما جعل هذا البديل غير متاح أيضاً.

ويؤكد شحادة أن الأوضاع الاقتصادية القاسية دفعت العديد من المواطنين إلى التخلي القسري عن حيواناتهم، سواء الأليفة أو المفترسة، بعد أن أصبحت رعايتها عبئاً يفوق طاقتهم اليومية.

ومن الظواهر المؤلمة التي برزت مؤخراً الزيادة الملحوظة في طلب عمليات "التعقيم" الجراحية للحيوانات، وهي إجراءات تُنفَّذ عادةً لمنع التكاثر، ويوضح شحادة أن هذا التوجّه يأتي في محاولة للحد من أعباء الإنفاق على طعام الحيوانات الأليفة، بينما يبقى تنفيذ هذه العمليات على الحيوانات المفترسة أمراً معقداً ومستحيلاً حالياً على الرغم من الحاجة المُلحة إليها، نظراً إلى انعدام معدات التخدير والأدوية الجراحية المتخصصة في القطاع، وهو ما يجعل هذه الإجراءات شبه معدومة في ظل الواقع الصحي المنهار.

ومن جانبه، وصف الدكتور محمد البيومي،[6]  الطبيب البيطري في غزة، الوضع البيئي والصحي القائم بأنه كارثة قاتلة مشيراً إلى أن نحو 90% من العيادات البيطرية قد دُمّرت بالكامل، بينما استُنفد ما يقارب 80% من مخزون الأدوية البيطرية بحلول منتصف سنة 2024، وهو ما ترك آلاف الحيوانات بلا أي رعاية طبية فاعلة.

 

المصدر: صفحة حديقة حيوان رفح على منصة فيسبوك، 27 أيلول/سبتمبر 2023

 

وقال البيومي: "الحيوانات التي نجت من القصف، لم تنجُ من الجوع"، في توصيف دقيق لحجم المأساة، مشيراً إلى تفشّي أمراض؛ كالتهابات اللثة، والإمساك، والطفيليات الجلدية، والأمراض الفيروسية، وجميعها ناتجة من نقص المياه النظيفة، وسوء التغذية، وتدهور البيئة الصحية. وحذّر البيومي من أن بعض هذه الأمراض، وخصوصاً تلك المنقولة عبر الاحتكاك المباشر كالطفيليات الجلدية، لا تُهدد الحيوانات فقط، بل أيضاً تشكل خطراً على الصحة العامة للإنسان في ظل اكتظاظ مراكز الإيواء ونقص الموارد الصحية، وهو ما يُنذر بانفجار صحي أكبر في مجتمع محاصَر ومنهَك. 

ملجأ تحت النار: قصة مؤسسة "سلالة"

في خضم هذا الخراب، أخبرنا سائد العر من مؤسسة "سلالة" لرعاية الحيوان في غزة[7]  مأساة أُخرى، إذ كانت المؤسسة تحتضن 600 كلباً يتلقون الرعاية والمأوى، حتى بدء حملة الإبادة التي شنتها إسرائيل على القطاع، إذ قتل القصف بعض الكلاب، وأصاب بعضها الآخر بكسور وبتر أطراف، بينما نهش الجوع ما تبقّى منهم.

في بداية الحرب، تلقت المؤسسة اتصالات هائلة بشأن حيوانات مفقودة أو ميتة، لكن أزمة الاتصالات وتفاقُم النزوح أعاقا عملها، إذ اضطرت المؤسسة إلى الاحتفاظ بـ 40 كلباً فقط، منها 10 في حاجة إلى رعاية خاصة، لكن عودة القصف أجبرت العر وفريقه على الفرار، تاركين الكلاب وراءهم بعد تأمين كمية محدودة من الطعام والماء.

ويقول العر، في ظل حديثة بحرقة عن هذا الأمر: "حاولنا العودة، لكن المجاعة وتكثيف القصف جعلا الوصول إلى الملجأ مستحيلاً. مصير هذه الكلاب لا يزال مجهولاً، لكن الأمل الضئيل يتلاشى مع كل غارة جديدة."

في غزة لا يُسمع زئير الأسود، ولا رفرفة أجنحة النسور، إنما أنين خافت لحيوانات تحتضر بصمت داخل أقفاصها المحطمة، وتروي مأساتها بنظراتها الزائغة في انتظار موت بطيء أو معجزة لم تأتِ.

وفي ظل قصف متواصل أكل الأخضر واليابس، وسوّى البنى التحتية بالأرض، باتت هذه الكائنات ضحايا منسية، تُصارع وحدها الجوع والخوف والخذلان. والحديث هنا لا يدور بشأن إنقاذ أرواح حيوانات فحسب، بل أيضاً بشأن مظاهر حياة على أرضٍ أنهكها الحصار والقتل.

 

 

[1] عاصم النبيه، مدير العلاقات العامة في بلدية غزة.

[2] مقابلة مع رائد لبد، 30/4/2025.

[3] مقابلة مع رائد لبد، بلدية غزة، 30/4/2025.

[4] مقابلة مع فتحي جمعة مالك حديقة حيوان في رفح، 23/4/2025.

[5] مقابلة مع الدكتور البيطري بشار شحادة، 30/4/2025.

[6] مقابلة مع الدكتور البيطري محمد البيومي، 23/4/2025.

[7] مقابلة مع سائد العر من مؤسسة سلالة لرعاية الحيوان، 23/4/2025.

Content source site
promoted_date
publication year
2025
promoted_image
Paper's Language