يصدر معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) نشرة الأمن الغذائي منذ العام 2009 إسهاما منه، وبموارده الذاتية، في جهود قطاع الأمن الغذائي في فلسطين، بهدف دعم صانعي القرار والمؤسسات العاملة في مجال تحسين أوضاع الأمن الغذائي في فلسطين. وقد باتت النشرة تشكل مرجعاًً مفيداًً دورياََ لمتابعة تطورات القطاع ومقارنة أوضاعه بين فترة وأخرى، فهي تعد جزءاًً من إسهامات المعهد البحثية والعلمية في المجال والذي حظي باهتمام متزايد خلال السنوات الأخيرة، خصوصا من خلال مشاريع بحثية مع شركاء المعهد، مثل برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو).
في ظل الظروف الكارثية التي يعيشها القطاع والتي تزداد قسوة مع مرور الأيام، فإن اقل ما يفترض القيام به هو عنونة نشرة هذه السنة “بنشرة انعدام الأمن الغذائي”، تأكيداًً على استخدام الاحتلال الإسرائيليّّ لسياسات التجويع كسلاح في الحرب التي يشنها على قطاع غزة وعلى فلسطين. يأتي هذا العدد الخاص للمرة الثانية منذ اندلاع الحرب ( خريف وشتاء 2024 ) التدميرية لجميع مناح الحياة الحيويّّة، والتي خلفت ما يزيد على 41 ألف شهيد و 97 ألف جريح، وتسببت في نزوح قرابة جميع سكان قطاع غزة إلى يومنا هذا، بالإضافة إلى استهدافها المباشر لجميع شرايين الحياة، مثل المرافق الصحية والنشاطات الاقتصادية والإنتاجية والمساكن والمباني، عدا عن تدمير ما يقارب 87 ألف مبنى تدميراًً كلياًً، وإخراج 34 مشفى عن الخدمة، واستمرارها في سياسة استهداف طواقم الإسعاف والأطباء والصحفيين. 1 وفي هذا السياق، تأتي النشرة مكملةًً لجهود معهد “ماس” خلال الأشهر الأخيرة في توثيق ورصد مُُجريات الحرب الإسرائيليّّة على فلسطين وأبعادها الاقتصاديّّة والاجتماعيّّة المُُتعددة، وتحليلها لغايات دراسة المُُتطلبات الإغاثية والسياساتيّّة والتمويليّّة والمؤسساتيّّة لمواجهة تبعات هذا العدوان.
لقد فاقت الحرب الحاليةّّ جميع المحاولات الإسرائيليّّة السابقة والمُُستمرة لإضعاف المُُجتمع الفلسطينيّّ ومنابع تنميته المُُتعددة. وللمرة الأولى تظهر الحرب كساحة للكشف عن موازين القوى الدوليّّة التي أتاحت للاحتلال الإسرائيليّّ تجاوز جُُملة المحافل الدوليّّة وقراراتها وقوانينها. فقد استخدم الاحتلال الإسرائيليّّ خلال الحرب سياسات مستحدثة لإحداث دمار شامل يُُعيق أي قُُدرة على استمرار الحياة الإنسانيّّة أو استعادتها. وتُُشير التوقعات الأولية إلى أن العدوان الحاليّّ سوف يترك وراءه آثاراًً غير مسبوقة تحتاج لسنوات من التنمية الاقتصاديّّة-الاجتماعيّّة لاستعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين، وبالتحديد في قطاع غزة، إلى ما كانت عليه الحال قبل الحرب والتي في أساسها لا تكاد تقترب من مجرد الوصف بأنها تنموية أو مُُكتفية.
في العدد السابق من النشرة، قُُمنا بتأطير حالة انعدام الأمن الغذائي ضمن مفاهيم التجويع كسلاح حرب والتجويع في إطار القوانين الدولية وقوانين الحقوق (Domicide) وإبادة المسكن(Weaponizing Starvation) الإنسانيّّة، وتقديم بعض المؤشرات الأوليّّة لهذه الكارثة. وفي ظل هذه الظروف الكارثية التي لا يزال يشهدها قطاع
غزة لأكثر من تسعة شهور يسلط هذا العدد من نشرة انعدام الأمن الغذائي الضوء على آخر مستجدات الحالة الإنسانية المتعلقة بانعدام الأمن الغذائي بين الغزيين ويوضح بعض النقاط بشأن الجدل حول حدوث مجاعة فعلية والتحذيرات من احتمالية حدوثها في أي وقت. وعلى الرغم من هذا التجويع يأبى أهالي قطاع غزة الاستسلام فعاد من استطاع للزراعة بعد أن استصلحوا الأراضي المتضررة وأسطح المنازل المدمرة وبين الركام لمواجهة المجاعة، وفي هذا الصدد نقوم بتسليط الضوء على بعض المبادرات الفردية والمؤسساتية. كما قمنا بإفراد جزئية للحديث عن عنف المستوطنين المنظم برعاية دولة الاحتلال لتهجير التجمعات البدوية في مناطق “ج” وشرقي القدس تحت ستار الحرب وتناولنا أثر النزوح على الأمن الغذائي لهذه المجتمعات.
كما يتتبع الجزء الثاني من هذا العدد التطورات في أسعار الغذاء عالمياًً ومحلياًً، والتي تأثرت بشكل كبير نتيجة منع وصول السلع التجارية والمساعدات إلى القطاع، بالإضافة إلى تتبع تأثر الأسعار الناتج عن اضطرابات حركة التجارة في البحر الأحمر بسبب منع السفن المارة إلى دولة الاحتلال من العبور واستهدافها من قبل القوات اليمنية. يستعرض القسم الثالث من النشرة نقاشاًً علمياًً ودراسات حديثة حول سياسة التجويع التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي كسلاح ضد الفلسطينيين والتدمير الممنهج لمقومات الحياة لديهم. إذ تتناول الجزئية الأولى دراسة توضح كيف دمرت الحرب مقومات الأمن الغذائي في قطاع غزة بشكل لا رجعة فيه بالغالب. كما تطرقت إلى دراسة تناقش تسليح الدعم الإنساني وازدواجية المعايير في تفسير القوانين الدولية، حيث تصبح جريمة واضحة مثل الإبادة الجماعية محط جدل ودراسة بما يسمح بتبريرها أو عدم الإقرار بها. إضافة إلى ذلك، يعرض هذا القسم دراسة تستشرف مستقبل الأمن الغذائي في قطاع غزة والمنطقة بالأخص في الدول التي تعاني أزمات اقتصادية من خلال دراسة تبعات العدوان الحالي وتوقعات ارتفاع أسعار الوقود والغاز وأثرها على الدول المصدرة، عدا عن ارتفاع تكلفة التجارة، وهو ما من شأنه أن يحدث تراجعاًً في تحقيق الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة 2030.